آلٺِّينُ آلمُمَلَّحْ \" قصة قصيرة \"


..} عندما أحنُّ إلى لغتي ..
أجلسُ بجانبِ النّضد الصَّغيرْ ..
و أكتبُ .. أيَّ شيءٍ ..
باستثناءِ .. لغتي .. ! {


 


* آهٍ لو يرجعُ الزَّمنْ ..آهٍ لو توقَّفتْ عقاربُ السَّاعةِ يومذاكْ ..
تنهَّد الرَّجلُ العجوزُ فيما عيناه تمضُغانِ آهاتِه .. كإصبعٍ يدورُ في حلقةٍ مُفْرَغَةْ ..
تذكَّر ذاك الطَّريق .. كيف ضاع الحُلُم ؟؟ .. و كيف أتى الرَّحيلْ ؟؟ .. و كيف و كيف ؟؟ ..
تذكَّر كيف حاولت " أمُّ سليمان " جارتهم العجوز في ( يبنا ) أن تدفعَ أحدَ الجنودِ الصَّهاينة من قُدَّامِ بيتِها .. فقُوْبِلَتْ دفعتُها بطلقةٍ ناريَّةْ اخترقت صدْرَها المُشْبَعْ بكلِّ الذِّكريات .. ثمَّ أحالتها إلى حفرةٍ صغيرةْ أُجْبِرَ الفلاحون على دفنها فيها قبل أن يُجْبَروا على تركِ القريةْ .. كانَ يومذاك طفلاً ..
لكنَّهُ اليوم .. شيخاً مُسِنَّاً قارَبَ على السَّبعينْ ..

ثُمَّ إنَّه تذكَّر قدميه الصَّغيرتين و قد كانتا تعجزانِ عن السَّيرِ في رمالٍ موحِشَة تُنْكِرُ أيَّ إثباتْ .. و تتمنى لو تصرعَهُ فيموتُ في جوفِها .. أيضاً .. بلا أيِّ إثباتْ ..

أحسَّ بارتعاشةٍ خفيفةْ سرَتَ في جميعِ أطرافِهِ .. لعلَّها من دواعي الكِبَرْ ..
قالها بصمتٍ دفينْ و تنهَّد للمرَّة الثَّانية ..

يومها .. كان يسيرُ و أبيه .. أمِّه .. و إخوتِه التِّسعة ..
السَّيرُ هناك .. كان أشبه بالسَّيرِ إلى المالانهاية .. لكنَّ السيرَ هنا .. في المخيمِ ..
يسيرُ وحدَه إلى النِّهايةْ .. !

تذكَّر كيف قالها لأبيه ببراءةِ طفلِ الثَّالثةْ : أين نذهبُ يا أبي ؟
و كيف خرج جوابُ الأبِ المبعثرِ من سكونِ عينيه .. من تلك الحيرة القاتلة التي أكلت شفتيه و امتدَّت غارسةً أنيابَها في عَضُدِه .. فما عاد لكلماته أي مكانْ ..
حاول أن يقول شيئاً .. لكنَّ الصَّمت المطبق في المكان أبى أن يُخْرِجَ الكلامَ حتَّى من شفتي رجلٍ عجوزْ ..






كان يفكِّرُ في ( يبنا ) .. بل إنَّه اعتاد التَّفكير و التَّفكير فقط .. يفكَّرُ لمجرَّد التفكير ..
و لم يعد يعنيه الحلّ .. فأيَّة حلول في نظره .. مجرّد حلولٍ ترقيعية .. آنيَّة .. لا أكثر ..
أمَّا هو .. فكان يريد حلاً متجذِّراً من عُمْقِ قضيَّته .. ملتحماً بترابِه .. واصلاً شِمالَه بجُنُوبِه .. شرقَه بغربِه .. و ياسمينَه بعنبِه .. لم يجده ..
بحث عنه .. فلم يجده ..
حتَّى بعد أن زجُّوا به و مئات الآلاف من النَّازحين في مخيماتٍ مبتذلة .. لم يجده ..

الآن .. قد قارَب على السَّبعين .. لكنَّه ما زال يذكر .. كيف اخترق الصهاينة ( يبنا ) و كيف انتزعوا الفلاحين من أراضيهم ؟؟ .. و كيف دمَّروا مدرسة القرية التي لم يكن قد مرَّ على إنشائها عام واحد .. ؟!

مرَّت الأحداث سريعاً .. سريعاً جداً ..
مشاهدٌ كثيرة اخترقت الذاكرة بلهيبِها المُسْتعِرْ ..
أطفالٌ مشرَّدون .. أطرافٌ ممزَّقة .. أشلاءٌ متناثرةْ .. و القذائفُ كالسَّيلْ ..
هنا .. قذيفةٌ تسقط على عائلةٍ بأكملها فتبعثرها ..
و هناك .. أخرى تنسفُ حُلُماً صغيراً لم يتجاوز السَّنةْ !

طفلةْ لم ترَ من الدُّنيا شيئاً بعدْ ..
تأتيها شظية طائشة فتمزِّق الجسد الصغير إلى فُتاتٍ تطايَرَ مع رياحٍ غربيةْ أبت إلا أن تهبّ في المكان ..

سيِّدة عجوز تتّكيءُ على عُكَّازٍ خشبيٍّ قديم .. أمسك بها أحدهم .. و بقوة شيطانية ..
فصل رأسها عن جسدها .. ثمَّ علَّقها على شجرةِ الزَّيتون العتيقة في آخرِ القريةْ ..
و من البُعدْ .. سُمِعَتْ أصواتُ قهقهاتٍ عاليةْ تخبو شيئاً فشيئاً باقترابِها من خطِّ الأفقْ .. تتبعُهَا أصواتٌ صامتةٌ متقطَّعةْ تُتَمْتِمُ باللَّعَنات .. و نحيبٌ لا ينقطِعْ ..

تذكَّرَ كيف تركُوا خلفهم كُلَّ شيء .. و مضوا في ذاك الطَّريق ..
الأرض .. الأشلاء .. الذّكريات .. و كلّ شيء .. و مضوا بلا هدف ..
هو .. أبوه .. أمُّه .. إخوته التِّسعة .. و أهالي ( يبنا ) ..
مضَوا بلا هدف ..

كان يصرخ من شدة الجوع .. العطش .. التَّعب ..
الكبارُ يحتملون .. أما هو .. فصغير .. صغيرٌ جداً ..
ينظرُ في عيني أمِّه فلا يجد فيهما سوى ملامح التّعب و الإرهاق ..
لا يجد سوى عينين ذابلتين تتجرَّعان آلام الفراق و هموم المستقبل مع حنينٍ لا يوصف إلى ( يبنا ) ..
أمَّا والده .. فرغم الأسى الذي اكتنفه من أعلاه لأسفله .. إلا أنّ نظرتَهُ الحازمة لم تتغيَّر بعدْ ..
نظرةُ الفلاح الحازمة لم تتغيَّر بعدْ .. بل إنَّها لم تفارقه حتَّى في أواخر أيّام حياته في المخيم ..

ارتسمت على وجهه ابتسامةُ سخريةٍ عريضةٌ ممتزجةٌ بكبرياءٍ غريبْ ..
" إنَّ سلاح الصهاينة كان أقوى من أن يُواجَهَ بنظرةٍ حازمةٍ من فلاح .. سلاحُهم كان مادِّي .. أقوى حتى من بندقيَّةِ فلاح ! .. لكنَّ نظرةَ الفلاح الحازمة هي سلاحُهُ المعنويّ .. سلاحُ الفلاح و أهل الفلاح و أهل فلسطين .. كلُّ فلسطين .. معنويّ ..
إيمانٌ و ثقةٌ بنصر الله .. و ما أكمله من سلاحْ ! .. "
اعتدل في جلسته .. و رفع رأسه إلى السَّماء بثقةْ .. " ما أكمله من سلاح ! .. "

بعد شهورٍ طويلة من مضيِّهم في ذاك الطّريق بلا هدف .. وصلوا الخيام .. مجموعة خيامٍ مهترئة ... كانت قد أعدَّتها لهم وكالة الغوث الدولية ..
أخذ العجوزُ نفساً عميقاً لكنَّهُ سريع ..
" أعتقدُ أنَّها كانت تعلم بكل شيء قبل شهور من مجيئِنا .. آه .. وكالة الغوث .. لذا أعدّت لنا خياماً متآكلة تحسُّباً ! "

تذكَّر كلماتِ أستاذه الشّاب في المخيم : " قتلوا القتيل و مشوا في جنازته " .. صدق المعلم و كذب الآخَرْ .. !

فجأة ..
أحسَّ بضيقٍ عميق يكتنفه و يسري في أعماقِ أعماقِ جسده المتداعي ..
طافت في ذهنه صورة أهالي القرية في الخيام ..
لا مأوى .. لا طعام .. لا هدف ..
قالها بصمتْ .. " لقد أصبحنا لاجئين في أرضنا ! " ..
أعجبه المصطلح .. ( لاجيء في أرضه ) .. و اعْتَقَدَ أنَّه يُعْجِبُ آخرين هذه الأيَّام أيضاً ..

" اقتربت الشَّمسُ من الرَّحيل .. سأُسْرِعُ في العودةِ اليومْ .. كي لا تقلق " أم قاسم " .. فالمخيَّم بعيد .. و الطَّريق لا زالَ طويلاً .. "
قالها بسرعة .. و تنهَّدْ .. للمرَّةِ الثَّالثةْ .. !!

------------------








01/07/2009
4:00 pm

0 التعليقات: